كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَلَوْلَا أَنَّ فِي لِسَانِهِمْ التَّرْتِيبَ فِي الْفِعْلِ عَلَى حَسَبِ وُجُودِهِ فِي اللَّفْظِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِ هَذَا السَّائِلِ وَهُوَ قَدْ جَهِلَ مَا فِيهِ التَّرْتِيبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ، وَهُوَ قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} وَهَذَا اللَّفْظُ لَا مَحَالَةَ يُوجِبُ تَرْتِيبَ فِعْلِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَتَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ، فَمَنْ جَهِلَ هَذَا لَمْ يُنْكَرْ مِنْهُ الْجَهْلُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَمَا يَدْرِي هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ؛ وَأَيُّهُمَا أَوْلَى قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبَ الْفِعْلِ، أَوْ قَوْلُ هَذَا السَّائِلِ؟ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي إسْقَاطِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ إلَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ كَافِيًا مُغْنِيًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَقَوْلُهُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» أَمْرٌ يَقْتَضِي التَّبْدِئَةَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لُزُومٌ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِهِ مُرَتَّبًا إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ كَذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُهُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» فَإِنَّمَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَحَفِظَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ السَّبَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُمَا حَدِيثَيْنِ وَنُثْبِتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْلَ فِي حَالَيْنِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَنَحْنُ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِينَا فِي مُرَادِ اللَّهِ مِنْ التَّبْدِئَةِ بِالْفِعْلِ إذَا بَدَأَ بِهِ فِي اللَّفْظِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ حَتَّى نَبْدَأَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لِأَنَّ اتِّبَاعَ قُرْآنِهِ أَنْ نَبْدَأَ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ، وَوَاجِبٌ أَنْ نَبْدَأَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ مِنْ تَرْتِيبٍ أَوْ جَمْعٍ وَغَيْرِهِ؛ وَأَنْتَ مَتَى أَوْجَبْت التَّرْتِيبَ فِيمَا لَا يَقْتَضِي الْمُرَادُ تَرْتِيبَهُ فَلَمْ تَتَّبِعْ قُرْآنَهُ، وَتَرْتِيبُ اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبَ الْفِعْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِلتَّأْلِيفِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا فَوَاجِبٌ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ.
قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْمَتْلُوِّ حُكْمًا كَانَ أَوْ خَبَرًا، فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي تِلَاوَتِهِ؛ فَأَمَّا مُرَادُ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ إيجَابُ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ قَدْ نَزَلَ بِأَحْكَامٍ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَهُ أَحْكَامٌ أُخَرُ وَلَمْ يُوجِبْ تَقْدِيمُ تِلَاوَتِهِ تَقْدِيمَ فِعْلِهِ عَلَى مَا نَزَلَ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّوَرِ وَالْآيِ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْتِيبَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا حَسَبَ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ، فَبَانَ بِذَلِكَ سُقُوطُ هَذَا السُّؤَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أُثْبِتَ التَّرْتِيبُ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ» قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَأَثْبَتَهَا بِالْأُولَى وَلَمْ تُوقَعْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، فَجُعِلَتْ «الْوَاوُ» مُرَتَّبَةً بِحُكْمِ اللَّفْظِ، فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يَلْزَمُك إيجَابُ التَّرْتِيبِ فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ حَسَبَ مَا فِي نِظَامِ التِّلَاوَةِ مِنْ التَّرْتِيبِ.
قِيلَ لَهُ: لَمْ نُوقِعْ الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرْت مِنْ كَوْنِ «الْوَاوِ» مُقْتَضِيَةً لِلتَّرْتِيبِ، وَإِنَّمَا أَوْقَعْنَا الْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهَا غَيْرَ مُعَلَّقَةٍ بِشَرْطٍ وَلَا مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ إذَا حَصَلَ هَكَذَا أَنْ يَقَعَ غَيْرَ مُنْتَظَرٍ بِهِ حَالٌ أُخْرَى، فَلَمَّا وَقَعَتْ الْأُولَى لِأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ بِهَا فِي اللَّفْظِ ثُمَّ أَوْقَعَ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْهَا الثَّانِيَةُ وَلَيْسَتْ هِيَ بِزَوْجَةٍ فَلَمْ تَلْحَقْهَا؛ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فَلَمْ يَقَعْ بِهِ غَسْلُ الْوَجْهِ قَبْلَ الْيَدِ وَلَا الْيَدِ قَبْلَ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّ غَسْلَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَا يُغْنِي وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ، فَصَارَ غَسْلُ الْجَمِيعِ مُوجَبًا مَعًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ، فَلَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ التَّرْتِيبَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي وَالثَّالِثَ بِشَرْطٍ فَقَالَ: (أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ) لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِالدُّخُولِ؟ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا شَرَطَهُ فِي الْأُخْرَى مِنْ الدُّخُولِ، كَمَا شَرَطَ فِي غَسْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأُخَرَ؛ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: (إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ).
فَدَخَلَتْ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الْأُولَى أَنَّهَا تَطْلُقُ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: (هَذِهِ وَهَذِهِ) مُوجِبًا لِتَقْدِيمِ الْأُولَى فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ» و«ثُمَّ» تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بِلَا خِلَافٍ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَكَذِّبًا أَوْ جَاهِلًا، وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّ قَائِلَهُ فِيهِ مُتَكَذِّبٌ وَقَدْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْتِيبِ وَعَطْفُ الْأَعْضَاءِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِ «ثُمَّ» وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ: «يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ» وَقَالَ فِي بَعْضِهَا: «حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ» وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ تَرْكِ التَّرْتِيبِ، وَأَمَّا عَطْفُهُ بِ «ثُمَّ» فَمَا رَوَاهُ أَحَدٌ وَلَا ذَكَرَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَلَا قَوِيٍّ.
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَإِيجَابِ نَسْخِهِ، فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إيجَابُ التَّرْتِيبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا وَصَفْنَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْجَنَابَةُ اسْمٌ شَرْعِيُّ يُفِيدُ لُزُومَ اجْتِنَابِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَمَنْ كَانَ مَأْمُورًا بِاجْتِنَابِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الِاغْتِسَالِ فَهُوَ جُنُبٌ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ أَوْ الْإِيلَاجِ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ.
وَيَنْفَصِلُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَحْظُرَانِ مَا تَحْظُرُهُ الْجَنَابَةُ مِمَّا قَدَّمْنَا، بِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يَحْظُرَانِ الْوَطْءَ أَيْضًا، وَوُجُودُ الْغُسْلِ لَا يُطَهِّرُهُمَا أَيْضًا مَا دَامَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، وَالْغُسْلُ يُطَهِّرُ الْجُنُبَ وَلَا تَحْظُرُ عَلَيْهِ الْجَنَابَةُ الْوَطْءَ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ جُنُبًا لِمَا لَزِمَ مِنْ اجْتِنَابِ مَا وَصَفْنَا إلَى أَنْ يَغْتَسِلَ فَيُطَهِّرَهُ الْغُسْلُ.
وَالْجُنُبُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، كَمَا قَالُوا «رَجُلٌ عَدْلٌ وَقَوْمٌ عَدْلٌ» و«رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْلٌ زُورٌ» مِنْ الزِّيَارَةِ، وَتَقُولُ مِنْهُ: (أَجْنَبَ الرَّجُلُ وَتَجَنَّبَ وَاجْتَنَبَ) وَالْمَصْدَرُ الْجَنَابَةُ وَالِاجْتِنَابُ؛ فَالْجَنَابَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ الْبُعْدُ وَالِاجْتِنَابُ لِمَا وَصَفْنَا.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يَعْنِي: الْبَعِيدَ مِنْهُ نَسَبًا؛ فَصَارَتْ الْجَنَابَةُ فِي الشَّرْحِ اسْمًا لِلُزُومِ اجْتِنَابِ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْأُمُورِ، وَأَصْلُهُ التَّبَاعُدُ عَنْ الشَّيْءِ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّوْمِ قَدْ صَارَ اسْمًا فِي الشَّرْعِ لِلْإِمْسَاكِ عَنْ أَشْيَاءَ مَعْلُومَةٍ وَقَدْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكَ فَقَطْ وَاخْتُصَّ فِي الشَّرْعِ بِمَا قَدْ عُلِمَ وُقُوعُهُ عَلَيْهِ، وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ اللُّغَةِ إلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْقُولُ بِهَا مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا فِي الشَّرْعِ؛ فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ السِّمَةُ الطَّهَارَةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}.
وَقَالَ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} رُوِيَ أَنَّهُمْ أَصَابَتْهُمْ جَنَابَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَطَرًا فَأَزَالُوا بِهِ أَثَرَ الِاحْتِلَامِ.
وَالْمَفْرُوضُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ إيصَالُ الْمَاءِ بِالْغُسْلِ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ مِنْ بَدَنِهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَاطَّهَّرُوا} وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْنُونَ الْغُسْلِ، فِيمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسَدَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: «وَضَعْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ صَبَّ عَلَى فَرْجِهِ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَغَسَلَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، فَنَاوَلْته الْمِنْدِيلَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ عَنْ جَسَدِهِ» وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَالْوُضُوءُ لَيْسَ بِفَرْضٍ فِي الْجَنَابَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَإِذَا اغْتَسَلَ فَقَدْ تَطَهَّرَ وَقَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فَأَبَاحَ الصَّلَاةَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ؛ فَمَنْ شَرَطَ فِي صِحَّتِهِ مَعَ وُجُودِ الْغُسْلِ وُضُوءًا فَقَدْ زَادَ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ مَنْ قَامَ إلَيْهَا.
قِيلَ لَهُ: فَالْجُنُبُ حِينَ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ فَهُوَ غَاسِلٌ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ مُغْتَسِلٌ، فَهُوَ إنْ لَمْ يُفْرِدْ الْوُضُوءَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ فَقَدْ أَتَى بِالْغُسْلِ عَلَى الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْغُسْلِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ: (هُمَا فَرْضٌ فِيهِ).
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: (لَيْسَا بِفَرْضٍ فِيهِ).
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} عُمُومٌ فِي إيجَابِ تَطْهِيرِ سَائِرِ مَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ مِنْ الْبَدَنِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَنْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ وَلَمْ يَسْتَنْشِقْ يُسَمَّى مُتَطَهِّرًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِبَعْضِ جَسَدِهِ، وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ الْجَمِيعِ، فَلَا يَكُونُ بِتَطْهِيرِ الْبَعْضِ فَاعِلًا لِمُوجِبِ عُمُومِ اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عُمُومٌ فِي سَائِرِهِمْ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ قَدْ يَتَنَاوَلُ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ؟ كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ حُكْمِ آيَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ؛ إذْ كَانَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ، فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَاطَّهَّرُوا} عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} يَقْتَضِي جَوَازَهُ مَعَ تَرْكِهَا لِوُقُوعِ اسْمِ الْمُغْتَسِلِ عَلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ قَوْلُهُ: {فَاطَّهَّرُوا} يَقْتَضِي تَطْهِيرَ دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرُهُمَا فَائِدَةً، وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِمَا عَلَى أَخَصِّهِمَا حُكْمًا؛ إذْ فِيهِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ يُسَمَّى مُغْتَسِلًا أَيْضًا؟ فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الِاغْتِسَالَ نَفْيٌ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ عَنْ مَالِك بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ».
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّارِ» قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْت شَعْرِي.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ بَحْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَابُورٍ وَالْعُمَرِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً».